فصل: ذكر قتل جماعة من المصريين وعمارة اليمني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية:

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة وفيها ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله. وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أنه لما تمكن صلاح الدين بمصر وحكم على القصر وأقام فيه قراقوش الأسدي وكان خصياً أبيض وبلغ نور الدين ذلك، أرسل إلى صلاح الدين حتماً جزماً بقطع الخطبة العلوية، وإقامة الخطبة العباسية، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصرّ عليه، وكان العاضد قد مرض فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء ويقطعوا خطبة العاضد فامتثلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته، وتوفي العاضد يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع خطبته.
ولما توفي العاضد جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه وكانت كثرته تخرج عن الإحصاء وكان فيه أشياء نفيسة من الأعلاق الثمينة والكتب والتحف.
فمن ذلك الجبل الياقوت وكان وزنه سبعة عشر درهماً أو سبعة عشر مثقالاً، قال ابن الأثير مؤلف الكامل: أنا رأيته ووزنته. ومما حكي أنه كان بالقصر طبل للقولنج إذا ضرب الإنسان به ضرط فكسر، ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم واخرج جميع من فيه من عبد وأمة فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه وكأن لم تغن بالأمس. ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة ولم يمض إليه فلما توفي علم صدقه فندم لتخلفه عنه، وجميع من خطب له منهم أربعة عشر خليفة: المهدي، والنائم، والمنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسلجماسة في ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد في هذه السنة أعني سنة سبع وستين وخمسمائة، مائتان واثنتان وسبعون سنة تقريباً وهذا دأب الدنيا لم تعط إلاّ واستردت ولم تحل إلا وتمررت. ولم تصف إلاّ وتكدّرت. بل صفوها لم يخل من الكدر.
ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد ضربت لها البشائر عدة أيام وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم إلى نور الدين وصلاح الدين والخطباء وسيرت الأعلام السود وكان العاضد المذكور قد رأى في منامه أن عقرباً خرجت من مسجد بمصر معروف ذلك المسجد للعاضد ولدغته فاستيقظ العاضد مرعوباً واستدعى من يعبر الرؤيا وقص ما رآه عليه فعبر له بوصول أذى إليه من شخص بذلك المسجد فتقدم العاضد إلى والي مصر بإحضار من بذلك المسجد فأحضر إليه شخصاً صوفياً يقال له نجم الدين الخوبشاني فاستخبره العاضد عن مقدمه وسبب مقامه بالمسجد المذكور فأخبره بالصحيح في ذلك ورآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه فوصله بمال وقال له ادع لنا يا شيخ وأمره بالانصراف فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية والقبض عليهم استفتى في ذلك فأفتاه بذلك جماعة من الفقهاء وكان نجم الدين الخوبشاني المذكور من جملتهم فبالغ في الفتيا وصرح في خطه بتعديد مساويهم وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام في ذلك فصح بذلك رؤيا العاضد.
وفي هذه السنة جرى بين نور الدين وصلاح الدين الوحشة في الباطن. كان صلاح الدين سار ونازل الشوبك وهي للإفرنج ثم رحل عنها خوفاً أن يأخذه فلا يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر فنزله ولم يفتحه لذلك وبلغ نور الدين ذلك فكتمه وتوحش باطنه لصلاح الدين، ولما استقر صلاح الدين بمصر جمع أقاربه وكبراء دولته وقال بلغني أن نور الدين يقصدنا فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه نقاتله ونصده وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب فأنكر على تقي الدين ذلك وقال أنا والدكم لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه بل اكتب وقل لنور الدين أنه لو جاءني من عندك إنسان واحد وربط المنديل في عنقي وجرني إليك سارعت إلى ذلك وانفضوا على ذلك ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة وقال له لو قصدنا نور الدين أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله ولكن إن أظهرنا ذلك يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا ولا ندري ما يكون من ذلك وإذا أظهر ناله الطاعة تمادى الوقت بما حصل به الكفاية من عند الله فكان كما قال.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة وفي هذه السنة سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع مملوك لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب اسمه قراقوش إلى إفريقية ونزل على طرابلس الغرب فحاصرها مدة ثم فتحها واستولى عليها وملك كثيراً من بلاد إفريقية.
وفيها سار نور الدين إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان واستولى على مرعش وبهسني ومرزيان وسيواس فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويطلب الصلح فقال نور الدين لا أرضى إلا بأن ترد ملطية على ذي النون بن الراشمنذ وكان قليج أرسلان قد أخذها منه فبذل له سيواس فاصطلح معه نور الدين فلما مات نور الدين عاد قليج أرسلان واستولى على سيواس وطرد ابن الراشمنذ.
وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم وهو بالقرب من الكرك فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين فرحل عن الكرك عائداً إلى مصر وأرسل تحفاً إلى نور الدين واعتذر بأن أباه أيوب مريض وخشي أن يموت فتذهب مصر فقبل نور الدين عذره في الظاهر وعلم المقصود.
ولما وصل صلاح الدين إلى مصر وجد أباه أيوب قد مات، وكان سبب موت نجم الدين أيوب بن شاذي المذكور أنه ركب بمصر فنفرت به فرسه فوقع وحمل إلى قصره وبقي أياماً ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وكان عاقلاً حسن السيرة.

.ذكر ملك شمس الدين توران شاه بن أيوب اليمن:

ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة وكان صلاح الدين وأهله خائفين من نور الدين فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة فلم تعجبهم بلادها ثم سيره في هذه السنة بعسكر إلى اليمن وكان صاحب اليمن حينئذ إنساناً يسمى عبد النبي المقدم الذكر في سنة أربع وخمسين وخمسمائة فتجهز تورانشاه ووصل إلى اليمن وجرى بينه وبين عبد النبي قتال فانتصر فيه توران شاه وهزم عبد النبي وهجم زبيد وملكها وأسر عبد النبي ثم قصد عدن وكان صاحبها اسمه ياسر فخرج لقتال توران شاه فهزمه توران شاه فهجم عدن وملكها وأسر ياسر أيضاً واستولى توران شاه على بلاد اليمن واستقرت في ملك صلاح الدين واستولى على أموال عظيمة لعبد النبي وكذلك من عدن.

.ذكر قتل جماعة من المصريين وعمارة اليمني:

في هذه السنة في رمضان صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين فإنهم قصدوا الوثوب عليه وإعادة الدولة العلوية فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم. فمنهم عبد الصمد الكاتب. والقاضي العويرس. وداعي الدعاة وعمارة بن علي اليمني الشاعر الفقيه. وله أشعار حسنة فمنها ما يتعلق بأحوال العلويين وانقراض دولتهم قوله قصيدة منها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل ** وجيده بعد حسن الحلي بالعطل

جدعت مارنك إلا قفى فأنفك لا ** ينفك مأبون أهل الشين والخجل

مررت بالقصر والأركان خالية ** من الوفود وكانت قبلة القبل

وفي هذه السنة توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق بقلعة دمشق المحروسة وكان نور الدين شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود في الشام قبالة الإفرنج ويسير هو بنفسه إلى مصر فأتاه أمر الله الذي لا مرد له وكان نور الدين أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حنكه حسن الصورة وكان قد اتسع ملكه جداً وخطب له بالحرمين واليمن لما ملكها توران شاه بن أيوب وكذلك كان يخطب له بمصر وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشر وخمسمائة وطبق ذكره الأرض حسن سيرته وعدله، وكان من الزهد والعبادة على قدم عظيم وكان يصلي كثيراً من الليل فكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ** ما أحسن المحراب في المحراب

وكان عارفاً بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وليس عنده فيه تعصب وهو الذي بنى أسوار مدن الشام منها دمشق وحمص وحماه وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها لما تهدمت بالزلازل وبنى المدارس الكثيرة الحنفية والشافعية ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله.
ولما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين بالملك بعده وعمره إحدى عشرة سنة وحلف له العسكر بدمشق وأقام بها وأطاعه صلاح الدين بمصر وخطب له بها وضربت السكة باسمه وكان المتولي لتدبير الملك الصالح وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد المعروف بابن المقدم.
ولما مات نور الدين وتولى ابنه الملك الصالح سار من الموصل سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي وملك جميع البلاد الحزرية.

.ذكر خلاف الكنز بصعيد مصر:

ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة وفي أول هذه السنة اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز جمع كثير وأظهروا الخلاف على صلاح الدين فأرسل صلاح الدين إليه عسكراً فاقتتلوا وقتل الكنز جماعة معهم وانهزم الباقون.

.ذكر ملك صلاح الدين دمشق وغيرها:

في هذه السنة سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين بن أيوب دمشق وحمص وحماه، وسببه أن شمس الدين ابن الداية المقيم بحلب أرسل سعد الدين كمشتكين يستدعي الملك الصالح بن نور الدين من دمشق إلى حلب ليكون مقامه بها فسار الملك الصالح إلى حلب مع سعد الدين كمشتكين ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين قبض على شمس الدين ابن الداية وأخوته وقبض على الرئيس ابن الخشاب وأخوته وهو رئيس حلب واستبعد سعد الدين بتدبير الملك الصالح فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق فكاتبوا صلاح الدين واستدعوه ليملكوه عليهم فسار جريدة في سبعمائة فارس ولم يلبث أن وصل دمشق فخرج كل من كان فيها من العساكر والتقوه وخدموه ونزل بدار أبيه أيوب المعروفة بدار العقيقي وعصت عليه القلعة وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه فصعد إليهم صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال.
ولما ثبت قدمه وقرر أمر دمشق استخلف فيها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى وكانت حمص وحماة وقلعة بارين وسلمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة في إقطاع فخر الدين بن الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكث فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماة لسوء سيرته مع الناس وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها فإن قلاعها فيها ولاة لنور الدين وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم إلا بارين فإن قلعتها كانت له أيضاً ونزل صلاح الدين على حمص في حادي عشر جمادى الأولى وملك المدينة وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها ورحل إلى حماة فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة وكان بقلعتها الأمير عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض إلا حفظ بلاد الملك الصالح عليه وإنما هو نائبه وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستحلفه جرديك على ذلك وسار جرديك إلى حلب برسالة صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها وبها الملك الصالح فجمع أهل حلب وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة ليقتلوا صلاح الدين فأرسل سنان جماعة فوثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه واستمر صلاح الدين محاصر حلب إلى مستهل رجب ورحل عنها بسبب نزول الإفرنج على حمص ونزول صلاح الدين على حماة ثامن رجب وسار إلى حمص فرحل الإفرنج عنها ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها وملكها في الحادي والعشرين من شعبان من هذه السنة ثم سار إلى بعلبك فملكها، ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فجهز جيشه صحبة أخيه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي وجعل مقدم الجيش أكبر أمرائه وهو عز الدين محمود ولقبه سلفندار وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ليسير في النجدة أيضاً فامتنع مصانعة لصلاح الدين فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار ووصل عسكر الموصل صحبة مسعود بن مودود وسلفندار إلى حلب وانضم إليهم عسكر حلب وسار إلى صلاح الدين فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة وأن يقر بيده دمشق ويكون فيها نائباً للملك الصالح فلم يجيبوا إلى ذلك وساروا إلى قتاله واقتتلوا عند قرون حماة فانهزم عسكر الموصل وحلب وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم في حلب وقطع حينئذ خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال اسمه عن السكة واستبد بالسلطنة فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام وللملك الصالح ما بقي بيده منهم فصالحهم على ذلك ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال من هذه السنة.
وفي العشر الأخير من شوال ملك السلطان صلاح الدين قلعة بارين وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود ابن الزعفراني وكان فخر الدين المذكور من أكابر الأمراء النورية.